صلاح رشاد .. يكتب: الملك العضوض والأثمان الباهظة (34)
أبوجعفر وأبومسلم..صدام وشيك
قد يتساءل البعض لماذا كان أبو جعفر حريصا علي قتل أبي مسلم رغم دوره العظيم في تأسيس الدولة العباسية ؟
الأسباب الحقيقية لا يعلمها إلا الله، لكن من خلال قراءة الأحداث يمكن القول إن حالة الكبرياء التي انتابت أبا مسلم بعد تأسيس الدولة والنظر إليه من العامة والخاصة علي أنه أقوي رجل في دولة بني العباس جعلاه ينسي أن الملوك لا يتحملون هذا النوع من الشخصيات، خاصة في بدايات نشأة الدولة.
ويبدو أيضا أنه لم يكن يقدر المنصور حق قدره مكتفيا بعلاقته الوثيقة بأبي العباس السفاح الذي كان أصغر من المنصور بما يقرب من 10 سنوات، فعندما زار المنصور خراسان في خلافة أخيه السفاح عامله أبو مسلم ببعض التجاهل، كما رأي هيبته الشديدة وخوف الجنود منه، والشخصيات المستبدة مثل المنصور لا تنسي الإساءة بسهولة.
وربما ظن أبو مسلم أن الخلافة ستظل في بيت السفاح فهو شاب وأمامه العمر الطويل وبعده ستكون الخلافة من نصيب ابنه، لم يكن أبو مسلم يعلم ما تخبئه الأقدار وأن السفاح سيموت شابا.
وكان هناك موقف أغلب الظن أنه لم يسقط من ذاكرة المنصور أيضا، عندما كان مع أخيه السفاح ودخل عليهما أبو مسلم فقال له السفاح هذا أبو جعفر (يعني قدم له
أيضا فروض الطاعة والولاء) فرد عليه أبو مسلم: هذا موقف لا يعرف فيه إلا حقك يا أمير المؤمنين.
كل هذه الأمور كانت تزيد من كراهية المنصور لأبي مسلم والحرص علي القضاء عليه، مخافة أن ينقلب في أي لحظة ثم تدفع الدولة ثمنا فادحا لهذه الخطوة.
كان أبو مسلم قد ترك نائبا له علي خراسان هو أبو داوود فأرسل إليه المنصور: لك ولاية خراسان ما حييت لكن إقطع الطريق علي أبي مسلم ولا تجعله يرجع.
وأرسل المنصور رسالة مع أبي حميد _وكان رجلا داهية _ إلي أبي مسلم قال: أبلغه بأنني وليته الشام ومصر فيبعث إلي مصر من يشاء ويكون بالشام حتي يكون قريبا من أمير المؤمنين، وقل له ألين الكلام وأحسنه فإذا تمادي في العصيان، قل له: “يقول لك أمير المؤمنين لست من العباس وبرئت من قرابتي من رسول الله صلي الله عليه وسلم إن مضيت مشاقا أو وكلت أمرك إلي أحد غيري ولو خضت النار لخضتها وراءك، ولو اقتحمت البحر لاقتحمته وراءك حتي أقتلك أو أموت قبل ذلك “.
فجاء أبوحميد وبلغ الرسالة لأبي مسلم وقال له كل الكلام اللين فلم يجد إلا الصد والإعراض والإستهانة ووصلت الأمور إلي حد أن أبا مسلم كان يعرض بالمنصور أمام أصحابه ويقول عنه ابن سلامة.
وعندما زاد أبو مسلم من استهانته، فجر أبو حميد في وجهه الجزء الأخير من الرسالة الذي كان كله تهديد ووعيد، فتغير لون أبي مسلم وتملكه الرعب وسأل صديقه وأحد قواده مالك بن الهيثم فقال له: دعك من كل هذا الكلام ولا ترجع إليه فلو عدت إليه ليقتلنك، فعزم أبو مسلم علي الخلاف، وقال: خراسان لي ولن أتركها، وجاءته في نفس التوقيت رسالة أبي داوود نائبه علي خراسان يقول له: لاتأمرنا بطاعة الإمام ثم تعصاه لقد قلت لنا من خالفكم فاقتلوه وإن خالفتكم فاقتلوني، فازداد أبومسلم رعبا (طبعا هذه ضريبة من يستهين بعدوه ثم يكتشف بعد فوات الأوان أن عدوه كتلة دهاء ومكر تمشي علي الأرض).
شعر أبو مسلم أن الخناق يضيق عليه بشدة، فقال لصديقه مالك: سأوجه إلي أبي جعفر أحد رجالي المخلصين وهو أبو إسحاق فذهب إلي الخليفة فالتقاه المنصور.
هذا تصرف ساذج من ابي مسلم لا يليق بداهية جبار هدم دولة وبني أخري، ألم يدر في ذهنه أن المنصور من الممكن ان يشتري ولاء صديقه؟، ولم يكن ذلك بالأمر الصعب علي خليفة مثل أبي جعفر، الذي يملك أدوات الترغيب والترهيب ويحسن التعامل معها جيدا.
جاء أبو إسحاق إلي المنصور الذي قال له : إصرف أبا مسلم عن العودة إلي خراسان وسأعطيك ولايتها وزين له الأمور حتي يأتي إلي ففعل أبو إسحاق ما أراده الخليفة، وأقنع أبا مسلم أن المنصور لم يتغير عليه وبلع أبو مسلم «الطعم» وقرر أن يذهب إلي أبي جعفر المنصور فاستشار صديقا آخر له إسمه نيزك وكان أكثرهم وفاء لأبي مسلم، فقال له: أما إذا عزمت علي الذهاب فاقتل أبا جعفر وبايع من شئت في البيت العباسي فإن الناس لا يخالفونك .
فماذا يفعل أبو مسلم في هذا الوضع الخطير ؟
هل يستجيب للنصيحة ويقتل المنصور ويبايع من يريد من البيت العباسي؟وهل كان يقدر علي ذلك فعلا ؟
وإذا لم ينفذها هل سينجو من قبضة المنصور بعد أن وصل الصراع بينهما إلي هذه المرحلة ؟!
نجيب في الحلقة المقبلة إن شاء الله.